الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، فهدانا للإسلام وأتم علينا هذا الدين، وأرسل علينا السماء، وأخرج لنا من كنوز الأرض، فله الحمد والشكر. والصلاة و السلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الله عز وجل قسم الأرزاق بعلمه، فأعطى من شاء بحكمته، ومنع من شاء بعدله، وجعل الناس لبعض سخريا، قال الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
وابتلى الله عز وجل من شاء بوافر النعم لينظر أيشكرون أم يكفرون؟، ومنع من شاء بعدله ليصبروا ولا يتسخطوا.
ولقد وسع الله أرزاق العباد في هذه الأيام وأغدق عليهم من نعمه العظيمة، فقبل سنوات لا تتجاوز الثمانين عامًا كانت هذه البلاد بلاد جوع وخوف وأمراض وأوبئة، فأبدل الله حالها من فقر إلى غنى، ومن خوف إلى أمن، ومن أمراض إلى صحة وعافية!!
ولو ذكر لأجدادنا أنه ستأتي سنوات يقدم إلينا فيها من يكنس شوارعنا وينظف منازلنا ويحمل مخلفاتنا لما صدق العقل ذلك! ولكن الله عز وجل، وله الحكمة البالغة، ساق لنا الخيرات، وجعل هذا البلد وافر الرزق ومحط الآمال. فندعوا الله عز وجل أن يكون ذلك عونًا على طاعته وأن لا يكون استدراجًا، فإن فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر وأعظم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والفقر يصلح عليه خلق كثير والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم، ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين لأن فتنة الفقر أهون، وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لمّا كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم إشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء).
وقد وردت آيات كثيرة نصت على الترف والمترفين وسوء ذلك على نفوس الكثير، قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ وقال تعالى عن أصحاب الشمال: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وقال جل وعلا وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وقال تعالى في آية أخرى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ.
وقد يجعل الله عز وجل هذه النعم والخيرات إستدراجًا لمن عصاه وخالف أمره، كما سمعنا ذلك عن أمم سابقة، ورأينا ذلك في أمم ودول معاصرة، قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
وزوال النعمة وتحولها سببه المعاصي والذنوب، وعدم الشكر والحمد لصاحب الإحسان والفضل جل وعلا. ومما نراه من كفر النعمة منع الحقوق عن أهلها، وتأخير مستحقاتهم.. فلا يخلو رجل أو امرأة من أهل هذه البلاد إلا وتحت أيديهم من الأجراء والخدم ما ابتلاه الله بهم. ومع كثرة الخيرات تراهم يماطلون في إعطاء المساكين والأجراء حقوقهم وهي دريهمات قليلة.
فمنهم من يؤخر الراتب شهورًا عديدة، ناهيك عن تحميلهم ما لا يطيقون وإرهاقهم بالعمل طوال اليوم فلا يرتاحون ولا يُعانون.
فيا أخي المسلم: أترضى أن يتأخر راتبك الشهري خمسة أيام أو ستة؟! إذا لا يرضيك هذا، فكيف ترضى لمسكين أو مسكينة تأخير رواتبهم شهورًا، وهم ما أتوا لهذه البلاد إلا لكي يطعموا من تحت أيديهم في بلادهم الفقيرة.. فلهم طفل وشيخ وابن وابنة بل إن بعض أقاربهم لربما يموت بسبب المرض نظرًا لتأخر وصول مبلغ لشراء الدواء!
فليخف الله المماطلون وليتقوا عذابه، وليعلموا أن دعوة المظلوم لا تُرد حتى وإن كانت من كافر. عن جابر أن رسول الله قال: {إتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة} [رواه مسلم].
وقال: {من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء، فليتحلله منها اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه} [رواه البخاري].
وعليك بحديث الرسول: {أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه}. [رواه ابن ماجة].
ولا تأخذ من أموالهم شيئًا وادفع إليهم ما كان في عقودهم من راتب إجازة أو غيره، وتأمل في حال رجل خرج يقاتل مع رسول الله فيقتل ولكن أين مكانه وقد أخذ أمرا يسيرا من الغنائم؟!
عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله يوم خيبر فلم نغنم ذهبًا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع، فأهدى رجل من بني الضبيب يقال له: رفاعة بن زيد لرسول الله غلاما يقال له مدعم، فوجهه الرسول إلى وادي القرى حتى إذا كان بوادي القرى، بينما مطعم يحط رحلا لرسول الله إذا سهم عابر فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله: {كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة - كل ما اشتمل به من الكساء - التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا} فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي فقال: {شراك من نار أو شراكان من نار} [رواه البخاري].
وتجنب - أخي المسلم - أن تكلفهم ما لا يطيقون خاصة في هذا الشهر المبارك، وامتثل لأمر الرسول حيث قال: {ولا تكلفوههم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم} [رواه البخاري].
واحذر - أخي المسلم - من مخالفة أمر الرسول حيث قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} رواه أحمد وقال عليه السلام: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} [متفق عليه].
وقد عد العلماء من موالاة الكفار استقدامهم. فلا تكن هذه النعمة التي بين يديك وبالًا وخسارًا عليك.
أخي المسلم:
احذر المظالم ولا تقع فيها من تأخير رواتب، وأخذ حقوق، فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
والسعادة كلها في إعطاء أهل الحقوق حقوقهم، والتخلص منها قبل يوم القيامة، وقبل أن يمحق الله بركة هذا المال الذي في يدك. ولا تغتر بكثرة المال فإن العبرة ببركته لا بكثرته.. وتأمل حال من محقت بركة أموالهم كيف ينفقونها ذات اليمين وذات الشمال في علاج أمراض وإصلاح بيوت وهلاك أبناء وتعاسة زوجة! ثم التفت لذاك الرجل الورع التقي النقي كيف يهنأ بما لديه من مال وإن قل.. فأبناؤه بررة، وزوجته صالحة، ولربما أن البركة أدركت السيارة والمنزل، فأعطالها قليلة ونفقاتها يسيرة، وهذا ملاحظ مشاهد.
وإني أدعوك أخي المسلم للتصدق على أجرائك وخدمك زيادة على مستحقاتهم ففيهم أجر وصدقة، وهم لها مستحقون وإلا لما تغربوا عن أبنائهم وأطفالهم إلى هذه ا لأرض، ثم لتبرأ ذمتك من زلل أو خطأ أو قسوة وتقصير!
يقول عنهم رسول الله: {نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه} [رواه البخاري].
وقال: {ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره} [رواه ابن ماجة].
أخي المسلم:
احمد الله عز وجل على ما أنت فيه من نعم، وتيقن أنها أتت إليك رزقا من الله عز وجل لا أثر فيها للذكاء والفهم، ولا للجد والتعب، فكم من ذكي أخفق، وكم ممن يكد ويكدح وهو مديون، ولا تكن ممن كفر وقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي بل هذا مال الله عز وجل ورزقه الذي ساقه إليك في بلدك: ولم تتغرب كما تغرب غيرك، فاحمد الله عز وجل على نعمته.
ولا يكن هؤلاء الأجراء طريقًا لك إلى النار يوردونك الموارد، إما بتكشف الخادمة أمامك أو أمام أبنائك أو أمام الجيران أو غيرهم، بل سارع إلى سترها وحشمتها، ولا تدعها تخرج للشارع أو غيره إلا باللباس الشرعي، فإنها أمانة عندك، والله مسترعيك وسائلك عنها.
ثم احذر إن كان لديك سائق أن يخلو بنسائك ومحارمك أو أطفالك، فإن في ذلك خطرًا عظيمًا وشرًا مستطيرًا، ونسمع حوادث تشيب لها الولدان، وثق بأهلك ومحارمك، ولكن لا تثق بسائق أجنبي عنهم، وبعضهم لا يستأمن على قطيع غنم، فكيف تستأمنه على شرفك وعرضك وكيف يضيع نساؤك أمام عينك؟! يقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام.
{إياكم والدخول على النساء} فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: {الحمو الموت} [متفق عليه]. فإذا كان الأخ في النسب صاحب الشهامة والغيرة، يحذر النبي من دخوله على بيت أخيه، فما بالك بإنسان أجنبي ليس فيه غيرة ولا بينك وبينه رابطة نسب؟!
رزقنا الله عز وجل الرزق الحلال وبارك لنا فيه وجعله عونا على طاعته. اللهم أعنا على شكرك قولًا وفعلًا، ليلًا ونهارًا وسرًا وجهرًا، اللهم اجعل ما أنعمت به علينا عونا على طاعتك، ومقربة إلى جنتك، واغفر لنا ولوالدينا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكاتب: عبد الملك القاسم
المصدر: موقع كلمات